الأخبار
فمن أهم العناصر التي تجعل ميزان الطاقة في لبنان عاجزاً، هو كلفة التشغيل بسبب الاعتماد على الفيول أويل والغاز أويل كوقود لتشغيل معامل الإنتاج. تزيد كلفة الإنتاج في هذه المعامل عن 17 سنتاً لإنتاج كيلواط واحد من الكهرباء، ما يعني أن إنتاج كميات كبيرة من الكهرباء يتطلّب استيراد كميات هائلة من الفيول والغاز أويل لتشغيل المعامل، لذا كان لبنان يستورد سنوياً بأكثر من 1.5 مليار دولار من أجل تغطية حاجات المعامل، وهي كلفة يدفعها بالعملات الأجنبية وتمثّل ضغطاً هائلاً على وضعه المالي وعلى استقطاب التدفقات بالعملة الأجنبية من الخارج.
ويمثّل الانتقال من الإنتاج بواسطة الفيول والغاز أويل إلى الغاز الطبيعي، تطوّراً مهماً في بنية شبكة الطاقة اللبنانية. أصلاً هناك معامل حرارية لإنتاج الكهرباء صُمّمت في دير عمار والزهراني لتنتج بواسطة الغاز الطبيعي. وعندما أنشئ معمل دير عمار صُمّم بالتوازي معه أنبوب خطّ الغاز العربي الذي يربط لبنان بسوريا والأردن ومصر. وبهذا المعنى، فإن تشغيل وحدات الإنتاج بواسطة الغاز يتطلّب توريداً مستداماً لهذه السلعة، وهو أمر لم يكن متوافراً دائماً. فاندلاع الأحداث في سوريا في 2011 ولغاية اليوم، بالإضافة إلى العقوبات التي واجهتها سوريا وصولاً إلى تغيير النظام السياسي، ثم العقوبات على لبنان سواء تلك المباشرة أو غير المباشرة، منعت استقبال الغاز الطبيعي بواسطة هذا الأنبوب.
وهذا ما شكّل ضغطاً كبيراً على مؤسسة كهرباء لبنان وعلى الخزينة اللبنانية، إذ إنه بالإضافة إلى المشكلات الداخلية المتعلقة بتطييف شبكة الكهرباء بأركانها من معامل الإنتاج إلى التوزيع والنقل والجباية والصيانة وسواها، فإن المشكلات الخارجية فرضت أيضاً تشغيل معامل الإنتاج بأعلى كلفة مرتبطة بالفيول أويل والغاز أويل، وهو ما أدّى إلى ارتفاع في كلفة الإنتاج وتراجع الكفاءة وتزايد الأعطال التقنية. في المقابل، يمثّل الغاز الطبيعي خياراً أرخص قد يصل إلى نسبة 50%، ففي بعض الفترات كانت كلفة الإنتاج على الغاز تتراوح بين 7-11 سنتاً للكيلواط ساعة، في حين كانت في الوقت عينه تبلغ 18-20 سنتاً للكيلواط ساعة، بحسب وزير الطاقة السابق وليد فياض في مقابلة سابقة مع «الأخبار».
هكذا جاءت الخيارات البديلة التي استهدفها خط وزارة الطاقة منذ 2010 لغاية اليوم، أي منذ تولي الوزير جبران باسيل هذه الوزارة ثم وزراء التيار الوطني الحرّ. وبمعزل عن الاتهامات السياسية لهم، إلا أن الخطّة كانت ذات قيمة علمية، لأنها لحظت توسيع القدرات الإنتاجية بالتوازي مع تأمين خطوط توريد مستدامة. وجاءت محطات التغويز كواحدة من الأفكار التي توفّر الاستدامة في التشغيل والكفاءة والكلفة الأدنى. ولأن الغاز الطبيعي يعدّ خياراً أفضل لناحية الكلفة والتشغيل، فضلاً عن أن استيراده ممكن من دون الحاجة إلى أنبوب وخطّ ربط مباشر بين حقل الإنتاج ومعمل الكهرباء.
لكن هذا الاستيراد يتطلب من الجهة التي تصدره أن يكون لديها محطات لتحويله من الغاز الطبيعي إلى الغاز المسال حيث يوضع في خزانات على بواخر مصممة خصيصاً لإبقائه في الحالة المُسالة ونقله إلى الجهة المستوردة التي تستقبله في خزاناتها وتعيد تحويله إلى حالته الغازية تمهيداً لضخّه في معامل إنتاج الكهرباء.
هكذا اختلفت المسألة بكاملها. فأصبحت الأسئلة الأكثر أهمية تدور حول موقع إنشاء محطات التخزين والتغويز العائمة (FSRU) وطاقتها الاستيعابية وتكاملها مع شبكة الطاقة في لبنان.
عائمة أو بريّة؟
محطات التخزين والتغويز قد تكون عائمة في البحر أو بريّة. هناك تركيز في العالم على المحطات العائمة التي تكون عبارة عن باخرة متخصّصة تُستخدم لتخزين الغاز الطبيعي المُسال (LNG) وإعادته إلى حالته الغازية تمهيداً لضخّه في الشبكات نحو معامل إنتاج الكهرباء التي تعمل بواسطة الغاز. ففي نهاية 2024، بلغ عدد وحدات الـ FSRU العاملة حول العالم، نحو 45 وحدة، بعضها يعمل كوحدات عائمة دائمة، فيما تُستخدم أخرى كناقلات يمكن إعادة تأجيرها وتشغيلها حسب الحاجة.
وتوفّر هذه المحطّات سعة تخزين تتراوح بين 125 ألفاً و170 ألف متر مكعب من الغاز الطبيعي المُسال، ويمكن إنجاز الوحدات العائمة خلال فترة تتراوح بين 24 شهراً و36 شهراً مقارنةً بما بين 5 سنوات و7 سنوات للمحطات البرية الدائمة. هذه المرونة، بالإضافة إلى إمكانية النشر المتنقل، تجعلها حلاً مؤقتاً فعالاً لجهة الكلفة. ومن أهم مزايا هذه المحطات أن كلفتها أقلّ بنسبة ما بين 40% و50% مقارنة بالمحطات البرّية، وهي قابلة للنقل من دولة إلى أخرى وفق الحاجة، وإنشاؤها أسرع لوضعها قيد التشغيل، وتنطوي على مرونة تتعلق بتلبية الطلب وتعديل الكميات. لكن لها سلبيات من أبرزها السعة التخزينية المحدودة قياساً بالمحطات البرية، وتتأثّر بالعوامل المناخية، وتعتمد في تشغيلها على شركات أجنبية بدلاً من اليد العاملة المحلية.
الخطة التي يتم تشويهها
بعد الحديث عن إمداد لبنان بالغاز من مصر والكهرباء من الأردن سنة 2022، عقب أزمة المازوت، قدّمت وزارة الطاقة طرحاً يتعلّق باستقدام محطة تغويز عائمة إلى الزهراني، وإنشاء معمل جديد هناك بقدرة على إنتاج 700 ميغاواط، بالإضافة إلى المعمل القديم الذي ينتج نحو 485 ميغاواطاً. وتنطلق الفكرة من حاجة الدولة إلى مصدر طاقة مستقرّ واقتصادي لتغذية محطتي الزهراني الحاليتين والمستقبليتين، بحيث يتم إنشاء منشأة لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال (LNG) وتغويزه وتحويله إلى غاز يمكن استخدامه في تشغيل المحطات الكهربائية.
هذه المنشأة تشمل البنية التحتية البحرية والبرية، مثل خطوط الأنابيب ومحطات القياس والمضخات، وتشمل كذلك تأهيل محطة الزهراني الحالية لتعمل بالغاز بدلاً من الوقود السائل. الفكرة من هذا المشروع كانت أن تأتي متكاملة مع العمل على استقدام الغاز عبر خط الغاز العربي إلى دير عمار، بحيث يُصبح المعملان الأكبران في لبنان مُزوّدين بمصادر للغاز تؤمّن تشغيلهما بشكل مستمر وأكثر فعالية.
كانت الخطة تقوم على هيكل شراكة واضح، بحيث يتم التعاقد مع شركة أو تحالف شركات تتولى تصميم وتمويل وتنفيذ وتشغيل المنشأة لمدة عشر سنوات، على أن تنتقل ملكيتها إلى الدولة بعد انتهاء فترة العقد دون مقابل. تتضمن الاتفاقية نظام تسعير مزدوج يعتمد على رسوم ثابتة تغطي تكاليف الاستثمار والتشغيل (Capacity Charge)، ورسوماً متغيرة ترتبط بسعر الغاز (Commodity Charge).

